الخميس، 24 مارس 2016

بعـضٌ من الروحْ والموت ْ

إننا في هذه الحياة أرواحٌ مُجسّدة، وكل روح جميلة إنما تكون في جسد جميل، فالجسد للروح إنما هو وعاء شفاف يُظهر ما بداخله من حُسن أو قبح. وهذه الأرواح خلقها الله منذ زمن سحيق في القدم، واقرأ إن شئت قول الله عز وجل: {وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين}. سورة الأعراف - ١٧٢

وحقيق على أن نقول أن الأرواح جنود مجنّدة ما تعارف منها إئتلف، وما تنافر منها اختلف، ونحن في مقابلتنا الأولى لأحد الأشخاص، سنشعر بذلك الشعور الغريب الذي لا نعلم كُنهه، يقول لنا بصوت خفيّ: لن تحبَّ هذا الشخص، إنه شخص سيء. أو يقول: هذا الشخص يبدو لطيفًا، وكأنني أعرفه منذ زمن، يبدو أننا سننسجم جيدًا.

هذا الشعور المبدئي ويُسمّى في علم النفس (الانطباع الأولي) كثيرٌ ما يُحدد علاقاتنا بالأشخاص، وإن أهملناه وغفلناه، سيأتي اليوم الذي تُكشف فيه الخفايا ويتبين عندك حينئذ معدن الشخص.
وهذا الأمر يقودنا لموضوع بالغ الأهمية، ويظهر لنا حكمة الشرع في وجوب النظرة الشرعية للخاطبين، فلا تكفي الدلائل الظنية من أخبار ونقولات في الحكم على شخص أنه جيد أو سيء. بالطبع لا تكفي تلك النظرة التي تكون عادة ملآ بالخجل، ولكنها تلك الفرصة السانحة للأرواح لأن تتلاقى، وأن تُبدي كلًا منها شيء من القبول أو الرفض للروح الأخرى.

وفي حديثنا عن الموت شجون، وكان لا بُدّ بادئ ذي بدء، أن نتحدث عن المثبت، وهو أصل الحياة - الروح - كي نتحدث لاحقًا عن انعدامها أو بمعنى أصح عن انتقال الروح من هذه الحياة إلى مُقام آخر. وهل الروح تنتقل أم تنعدم؟ هل تفنى أم تكون خالدة، البحث عن كنه الروح صعب للغاية، ويُمكن للقارئ أن يطّلع على كتاب الروح للإمام الفذّ “ابن قيّم الجوزية”.

قال تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيُمسك التي قضى عليها الموت ويُرسل الأخرى إلى أجل مسمى}. سورة الزمر - ٤٢

ولنعرض ذلك السؤال الذي سأحاول البحث عن جوابه في عقلي ومن خلال تفكّري:
لماذا نشعر بذلك الحُزن، والفراغ الرهيب عند موت شخص نعرفه، سواء كان قريبٌ نعاشره أم بعيد فارقناه منذ زمن؟

من منّا لم يشهد موت شخص يعرفه، والمعرفة هُنا في أقلها تكون ذكرى أو أكثر في ذاكرتنا عن ذلك الشخص، وتتفاوت تلك المعرفة بحكم الاحتكاك والمعاشرة واللقاءات، وبالمجمل حجم الذكريات المُخزنة عنه والتي تتناسب طرديًا مع كمية الحزن أو الألم، أو الفراغ الذي نشعره عند سماع موت شخص ما.

سألت هذا السؤال في حسابي في تويتر، وأجمعت الإجابات أن هناك حزنًا وبلا شك، هُناك حزن شديد، وحزن خاطف، أو قليل من الحزن. وهذا مما تُفسّره الفقرة السابقة.

لكن لماذا هذا الحزن؟

لكي يُمكن الإجابة عن هذا السؤال، سنحاول بناءً على الوضع التالي استنتاج فرضية. شخص نعرفه ونعاشره يوميًا، ومع تغيّر ظروف الحياة ومع مرور الزمن تتضاءل اتصالاتنا معه، حتى يغدو بعد سنوات عدة شيء من الماضي، ومن دون أن نعلم حتمًا هل هو في عداد الأحياء أو الأموات، يأتي خبر بأن الشخص الفلاني فارقت روحه هذه الدنيا، فنُصاب بتلك الصعقة الخفيفة، أو ربما الحزن والدهشة التي تتفاوت من شخص لآخر حسب طبيعته ومشاعره، ما الذي تغيّر؟ نحن لم تصلنا أخباره ولا نعلم إن كان حيًا أو ميتًا ولكن عندما نوقن أنه فارق الحياة نشعر بالحزن عليه.

مردّ ذلك إلى أن الأرواح لا تهتم كثيرًا بالإحساسات الجسدية، فإحساسنا بأن الشخص حيًا أو ميتًا لم يؤثر، وأن تعلم روحنا وتتيقن أن روحًا أخرى بالفعل فارت الحياة، هنا تتألم الروح لفقدان زميلتها. وكأن معادلة الأرواح التي نحتفظ بها في ذاكرتها قد نقصت، فاختلّ توازنها، وبذلك ترسل تلك الأحساسيس بالفراغ والحزن والنقص. 

حقيقة أن الروح تحزن بفقدان روح أخرى من دنيا المحسوسات نشعر بها في دواخلنا، تُصاب إحساساتنا باختلال التوازن عند موت شخص قريب بشدة أكبر من موت بعيد جمعتنا فيه ذكريات. فموت القريب بالفعل يُخلّ بالتوازن العقلي للمقرّبين منه، فتختلط عندهم إدراكاتهم الحسية اللحظية، وإدراكات الذكرى والشعور الذي يحاول أن يجلب كل ذكرى ممكنة للشخص ليُخادع الروح أن الشخص ما زال موجودًا. ولكي يتغلب الإدراك الواعي على كمية الذكريات الهائلة التي يُرسلها اللاشعور، يحتاج إلى الوقت، بحيث يجمع من إحساساته ما يتغلب على الذكريات، وحينها يعلم أن الحياة ستستمر بانعدام ذلك الشخص، تلك الروح ذهبت والنقص حاصل، ولكنّ الحياة ستستمر حتمًا.

موضوع الموت مُؤلم بحق ويثير الشجون، ولا يشعر بذلك الألم والفراغ واختلال التوازن في موت قريب إلا من جرّبه وذاقه، وكلنا ذائقوه في يومٍ ما وهذه حقيقة الحياة المُرّة، فالموت كأسٌ جميعنا شاربوه، وكلّ من على الأرض فانٍ. فاللهم أحسن خاتمتنا ولا ترينا بأسًا في قريب أو بعيد.

قد قلتُ ما جادَ عليه عقلي وتفكّري بموضوع الموت وسبب ذلك الحزن، إن كان صوابًا فبتوفيق الله، وإن كان خطأً فمن نفسي والشيطان، وأرجو من قارئ هذه الكلمات أن يُكرمني برأيه وإن كان موافقًا أو معارضًا لما قرأه ومعذرة إن كنت أضعت وقتك.


هناك تعليقان (2) :

  1. تدوينة جيدة مُقنعة ��، لكن ماذا تعتقد بشأن الأشخاص الذين لايحزنون عند مفارقة شخص للحياةالروح أيضًا السبب؟ أيمكن أن تكون الروح سيئة ؟

    ردحذف
    الردود
    1. من ناحية الروح أنها سيئة، فواضع لدينا أن هناك نوعان من الروح، روح طيبة وروح خبيثة، وقبضه هاتان الروح متباين جدًا كما في الحديث الصحيح الطويل:
      http://library.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?flag=1&bk_no=74&ID=112

      أما بأن بعض الأشخاص لا يحزنون، هل لا يحزنون عند مفارقة شخص يعرفونه أم لا؟، وهل يحزنون على الشخص الجيد أم السيء؟

      أظن أن الحزن لا يكون إلا على شخص نعرفه، أو نعرفه عنه عالأقل ذكرى واحدة كما بينت في مقالي، أما إذا كان هناك من لا يحزن أبدًا ولا يشعر بأي شيء برحيل شخص يعرفه، سواء كان شخصًا جيدًا أم سيئًا!، فالشخص الجيد مؤكد أنه سيثير الحزن لطيبه، أما عن الشخص السيء، فإني أظن أنه بعد موته، لن تبقى في قلوبنا عليه حقدًا ولا حسدًا، الحقد والحسد كائنان للشخص في حياته، وعندما يفقد كل شيء في الدنيا ولن يعود لديه أي وجود، فالروح تتخلى عن هذه الصفات الحقيرة للروح الأخرى، وكثيرًا ما تنالنا الشفقة حتى على أعدائنا بعد رحيلهم.

      وجليّ أن الموت أعظم المصائب، ولا يُحسد أحدٌ على موته إلا الشهيد، ولكن إذا كان الشخص سيئًا وتجري أعماله السيئة على الأرض فلا بد أن ذكراه ستكون سيئة، ووفاته ستكون فرحًا وخلاصًا وخيرًا للأرض.

      هذه وجهة نظري. والله أعلم
      أعتذر عن الإطالة :)

      حذف