الأربعاء، 16 مايو 2018

لذّةٌ رمضانيّة

في أيام رمضان ولياليها، تفيض أحاسيسٌ ومشاعر لا تستطيع وصفها الكلمات، تملؤ الإنسان سكينة في الروح، وصفاء في الفكر، وخشوعًا في القلب؛ تجعله يشدّ الهمّة ويُهيّء الجسد للتلذذ بالطاعة، وقد كان في أيامه الماضيات جسدٌ بلا روح، شغلته الدنيا ولا يحس بطعم العبادة.

 هذا التلذذ بالصوم الذي يُعارضه الجسد في طبيعته، حيثُ من يُحرم من شهوته للطعام وهو موجود وفي المتناول، وعدم كفايته للنوم ليلًا وهو يطلُبه، والإجهاد اليومي للرجلين والرقبة في صلاة القيام، كل هذا الألم يتبدّل حاله من شدّة إلى لذّة ليست من التعذيب في شيء، فكأن مكاره الجسد أصبحت شهوات، وشهواتها مستقذرات. إنها نسائم الرحمة، فإن الجنّة حُفّت بالمكاره، ولكن أبوابها تُفتح، وإن النار حُفّت بالشهوات، ولكن أبوابها تُغلق. فهذا الذي تجده من انطفاء الشهوة الحيوانية، وسمُوّ الروح يتبعها الجسد إلى الطاعة الرحمانيّة، هو من ذلك، وهذا من كامل العطاء والرحمة والمنح الإلهية التي لا نُحسن شكرها ولن نستطيع.

عندما تقضي معظم وقتك في الطاعة، بين صيام وتلاوة للقرآن وتسبيح واستغفار، وصلاة وقيام واستماع للذكر وخشية في القلب، تعلم لماذا يُباهي اللهُ بالمسلمين ملائكتَه في هذا الشهر المُبارك، فنحن عندما نُنعّم للطاعة بفضل الله، نخرج من ضيق الجسد ووسوسة الشيطان، ونرتفع عن السيئات لنصل إلى درجة تعلو على درجة الملائكة التي تسبّح لله منذ خُلقت، فإن الملائكة لم يُعطوا الأجساد التي تفتقر لما يقوّمها من غذاء وشراب وشهوة، فعظيم الأجر والمباهاة التي يستحقها المؤمن تكون لأنه سمَا ونقّى جسده من الخبث ليصل لمرتبة إيمانية يحبها الله ويباهي بها.

النفس البشرّية تنقاد للصاحب في سلوكها، ومن المعروف أن الصديق يؤثر على صديقه لشدة ملازمته له، والفرد يتأثر بأسرته ومجتمعه لتربيته ونشأته فيها، فهذا الجَمع الذي يتصرف على طريقة معينة يُشكّل في تشابهه عقلية واحدة من العادات والسلوك والأخلاق والأعراف، لهذا يُدعى بالعقل الجمعي.

العقل الجمعي له تأثيره الواضح، وهو الذي يجعل من لا يتذوّق ما سبق ذكره من اللذّة والخشوع في العادة، يقوم مع الجماعة بما يقومون به من الصيام والقيام، يكون المشي مع التيّار هو القوة الدافعة لدى أولئك، فهم الذين اعتادوا العيش مع النّاس، والتصرف في سلوكيّات محببّة للنّاس، ومن أجل النّاس أنفسهم لا يستطيعون أن يختلفوا مع التيّار فيتأثرون بالعقل الجمعي، وهذا أيضًا من فضل الله عليهم، وحُسن اختبارهم واستدراجهم للطاعة، لكي يبتعدوا عن المسارات الخاطئة والسلوك الخبيث.

فمن قلّت طاعته وقصر عن إمداد روحه وتقويمها بنفسه في رمضان، فلينخرط مع جماعة المُصلّين والقائمين، ومن فتر عن تلاوة القرآن ونسي الكثير مما كان يحفظ منه، فليلتحق بحلق المراجعة والحفظ في المساجد وليكن مع الجماعة حيثما كانت تسير في طرق الخير، وليكن هذا الشهر الواحد في السنة هو التغيير الذي كنت تنتظره في كل يوم لتبدأ عاداتك الصحيحة وعباداتك التي تؤجلها، ولْيتب كل عاصٍ عن أفعاله الذميمة، المدخّن يقطع إدمانه، والمستمع لأغاني الطرب الفاحشة والموسيقى لينتهِ إلى أصوات القُرّاء الخاشعة، ومن كان أكولًا ممتلئ البطن، فليخفف من طعامه وليتبع حمية صحيّة، فمما لا يُدركه الناس، أن من آثار الصوم هو الشعور بالجائع الفقير، ومن لا يجد حاجته من الطعام، فلا يُتبع ذلك الصوم بكثير طعام وشراب، فهذا مما يُعارض مقاصد الصوم، وقد دلّت الأبحاث الطبية على وجود مشكلات كثيرة في الإقبال بشراهة على الطعام بعد الصيام الطويل. فهذه بركات رمضان نعدُّ شيئًا منها وقد فاتنا الكثير مما لا نستطيع حصره، فالغنيمة الغنيمة، والهمّة الهمّة.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق