الثلاثاء، 19 أغسطس 2014

أنـا عبَـد ْ

ابتلُيت الأمة بمفهوم الحريّة المزعومة، فصار التغنّي بها مفخرةً ورقيًا في كل نقاش وتخلّل مبدأ أغلب الناس الخالين أصلًا من أي مبادئ سامية، فصاروا يُنادون بها ويُقاتلون من أجلها، والأكثر إيلامًا وبليّة - كما يُقال شر البلية ما يُضحك - أن القتال من أجلها صار جهادًا!، والموت في سبيلها صار استشهادًا!، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ولا يصح جهادًا إلا في سبيل الله، بمعنى أن يكون المراد من القتال أن تكون كلمةُ الله هي العليا، وليس من أجل وطن ولا أرض ولا حريّة مزعومة. ولا يُقال فلان شهيدٌ أبدًا في هذا الوقت؛ حيث أن الشهادة هي ضمانُ الجنة وهذا لا يكون إلا بشهادة الله عز وجل وشهادة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهذا غير ممكن الآن، وقد بوّب البخاري في صحيحه بابًا بعنوان "لا يُقال فلان شهيد"، وإن كان الميْت شهيدًا فنحسبه كذلك ولا يضرّه عدم مناداته بالشهيد ولا ينفعه.

المهم أن الحريّة مفهومٌ مُشوّه ودخيل علينا، ما جاءَنا إلا من العقول المُنحلة من مفاهيم الإسلام الحنيف، والمغموسة في هُوّة التغريبِ والانفتاح اللا ديني واللا أخلاقي، فالحريّة في هذا المفهوم صار أقوى من كلّ مبدأ قويم، وتجاوز الحد في الثقافة والدين، فهو مُطلق من غير تقييد لا في السلوكيات ولا الاعتقادات ولا المعاملات الإنسانية. ولو تأمّل العاقل بفكره السليم، لعلم أن هذا المفهوم لن يجرّ وراءَهُ إلا الرذائلَ والمُنكرات، ويُهدّم كل بناءٍ أُسّسَ على الحق، ولشابهَ الحُر في تصنيفه الحيوانَ مشابهةً بيّنة، فالحيوانُ حُر بتصرفاته، ولا يعتقد بشيء، ويأكل ويشرب من غير حساب، فهو غير مُكلف لا بعقل ولا أمانة.

والمُتأمّل في حال المجتمعات التي بُذرت فيها حبوب الحرية القذِرة في أرضهم الخرِبة، ثم غُرست فيها غرسًا، ورأى حصادهم الكائن الآن لعلِم مناط الحرية وأين مُرادها الأخير، فتلك الشعوب ليس لها عقيدة، ولا تحدّهم أخلاقيّات، فصاروا يفعلون ما يشاؤون، ويعتقدون بما يشاؤون، ويُناكحون من يشاؤون وما يشاؤون، ليلًا ونهارًا، علانية وجهرًا، حتى بلغوا مبلغًا لم تصل إليه أشنع الأمم في التاريخ، وإنه لحقٌّ أن يحُلّ عليهم الغضب واللعنات، وأن تُخسف بهم الأرض والسماوات، فانتظروا إني معكم من المنتظرين.

ثم بعدَ هذا كلّه، تُنقل لنا هذه الدناءة الهاوية، فتغسلُ عقول أبنائنا وبناتنا، وساعدهم في هذا غُربتهم عن الدين، واعتناق كلّ ما يأتي من الغرب لغةً وتعليمًا في البداية، ثم موضةً ولباسًا، وفي النهاية ماذا؟ عقيدةً وسلوكًا ورذيلةً. فاللهم عافهم ولا تبتلينا.

إن الحريّة حقٌ مشروع في ديننا القيّم الحنيف، فالإنسان خلقَه الله فقدّره أحسن تقدير، وقوّمه خير تقويم، وجعل له الاختيار، ما بين الإيمان أو الكفر، الاتباع أو الابتداع، الطاعات أو المعاصي، وكلٌٍ محاسب على اختياراته، إلا أن الحرية الحقّة هي في الأمور المُباحة من غير المحرمات أو المنهيات؛ فلك أن تأكل وتشرب ما تشاء في حدود الطيب، وتلبس ما تشاء في حدود العُرف والستر، وتفعل ما تشاء في حقّ جسدكَ وعقلكَ ودينك. والعبوديّة لله وحده، هي أسمى معاني الحريّة؛ فهي حريّة من كل الأمور الحقيرة، وهي سموّ عن كل نهاه الله عزل وجل ورسوله من الخبائث، ولا معنى أجمل من أن تكون عبدًا لله وحده، مُوحدًا، مخلصًا دينك لله، طائعًا مُسلمًا ذليلًا لخالقك الأعلى. 

وعلى النقيض من ذلك، فمن تبنى من المسلمين مفهوم الحرية الغريب، فقد حكَم على نفسه عبوديّة الغربِ النجسِ، وعظُم في نفسه كل أفعالهم، وشعر بمنّهم وتفضّلهم عليه في الاختراعات والعلوم والمعارف، وهي التي في الأصل ما وصلت إليهم إلا من الإسلام. وليعلَم بأن من تُسوّل نفسه فعل المعاصي والمُنكرات بحجة الحريّة، بأنه على خطر عظيم، وعلى جُرف الهاوية، فلا يصدر هذا القول والفعل إلا ممن عظُم هواه في نفسه، وعاند وتكبّر عن عبوديّة الله، فيُخشى عليه من الردّة، فاللهم لا تبلينا.

وبالإضافة إلى هذا كلّه، فينهقُ دُعاة الحريّة بأن ندع الخلق وشأنهم، وأن يفعلوا ما يشاؤون دون أن نُنكر عليهم ذلك، وما يريدون بهذا إلا هدم أصل ثابت راسخٍ من أصول الإسلام، وهو النصيحة، والإعراض عن خير الأعمال وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر. ومما لا يشكّ فيه ذو لُب، أن المعصية من الفرد ستضرّه ويتعدى ضرره غيره، ولا سيّما إن جاهر بذلك غير مكترث، فهؤلاء المُجاهرين بالمعاصي لن يعفو الله عنهم، ولا يستحقون الستر لاستخفافهم بعفو الله، وعلى هذا يجوز أن تُذكر مساوئهم علنًا كما جاهروا بها علنًا، قال حبيبنا عليه السلام: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين". 

وإن تُرك هؤلاء بحريّاتهم المزعومة فسيهدون المجتمع وينخرون فيه حتى يقع في بحر ظُلماتهم وضلالاتهم، فحريّ بالمؤمن أن يُنكر المعاصي ويُنكر على أصحابها سرًا وعلنًا إن جاهروا بها، والنصيحة بالسر خير، ولا تدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أبدًا فيحل علينا غضب من الله، قال تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون}.
وخير مصداق لمآل الحرية وضررها على المجتمع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا فاستقينا منه ولم نُؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعًا".

هناك تعليقان (2) :

  1. مؤسف جداً أن أرى أغلب شباب جيلي يتبعون الحرية بمفهومهم الخاطئ، فكل منهم يتفاخر بما يفعل ويلبس، حتى أن بعضهم بلغ بهم الحد إلى عبودية الغرب، كما ذكرت أنه بسبب الغربة عن الدين والخطأ أيضاً يقع على الوالدين/الأهل؛ فهم رأووا الطريق الذي يسلكه الأبناء، لكن لم يقوموا بنصحهم أو وقفهم.
    ليس هذا فحسب بل أساساً "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لم يعد قائماً لدينا للأسف، اليوم كل من يرى شخصاً على معصية، لا يقوم بإصلاحها ويرد قائلاً "مايخصني فيه/ كيفه"
    إن شباب اليوم هم تراكمات الأمس، والحرية التي يدعون بها والتي هي خارج حدود الإسلام أصبح الآن واسع الإنتشار، ذلك من ضعف الوازع الديني ومن هنا نرى أن الحل الأول هو زرع الإيمان في القلوب ومن ثم توعيتهم.
    أنا متأكدة من أن هذا الموضوع متهاون فيه كثيراً، نظراً لما رأيته في الكثير من البنات والأمهات أيضاً، بنات اليوم هن أمهات الغد، إن كن بنات اليوم هكذا، فسلام على الأجيال القادمة.

    أحسنت عبدالله وبارك الله فيك.

    ردحذف
    الردود
    1. فعلًا، سلامٌ على الأجيال الآتية، كم يؤلمني قلبي وعقلي عندما أرى بعض العقول الفاسدة وهم يغدون آباءًا وأمهاتًا، فلا أعلم إلى أين سنسقط أكثر من سقوطنا الآن.

      الحمدلله أن الخير دائمًا يُقارع الشر، وفي كل مكان هناك ميزان واحد وكفّتان، والخير سيغلب إن شاء الله (قليلٌ من التفاؤل على غير عادتي :)

      شكرًا لتعليقكٍ.

      حذف