الجمعة، 11 سبتمبر 2015

في أنـفسـِكـُم ْ (٣)


الله هو الخالقُ وحده، وكل ما سواه مخلوقٌ. وللخلق عوالمٌ تُعدّ، ومنها (عالم الجنّ، وعالم الإنس، وعالم الملائكة، وعالم الحيوان، وعالم النبات، وعالم البحار...)، وتشترك كل هذه العوالم بأنها مخلوقة، ويتمايز عالَمان فقط بالتكليف، وهما عالم الإنس والجانّ. قال تعالى: {وما خلقتُ الجنّ والإنس إلا ليعبدون} الذاريات. والعبادة هي إفرادُ الله بالتوحيد، ونقيضه الشرك.

ومعنى التكليف أي المُحاسبة بالأعمال والجزاء بها، فكل ما يُخلق فهو يُخلق لعملٍ، ولله في ذلك الحكمة البالغة، إلا أنّ الحق ميّز الإنسان وشرّفه بالعقل، والعقلُ هو مناطُ التكليف، أي علّته والطريق إليه، والتكليف هو الأمانة التي حملهَا الإنسان وكان ضعيفًا جهولًا. قال ُسبحانه: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أي يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا} الأحزاب.

وهكذا اقترنَ العقلُ في الخلقِ بالتكليف، فالخلائق سوى الإنس والجنّ لا تعقل، فهي غير مكلّفة، وهي لا تُحاسب على أعمالها، وهي أصلًا لا تستطيع أن تتفكرّ في أعمالها، ومآلها، وجزائها، ولا تهتدي إلى ذلك سبيلًا. والعقل بذلك وهو مناط التكليف، هو الموصل - باستخدامه في التفكّر - إلى طريق الله، ومعرفة خالقه الذي أبدعه وأوجده وصورّه ورزقه، وبسط له الأرض وحباه هذا الموجود فيه وهو العقل. فالله أوجد العقل في الإنسان وأتاح للإنسان أن يصل إلى معرفة الله عن طريق العقل. قال الحق عز وجل: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها} الحج.

فبهذا العقل وهو من بليغ نعم الله، تميّز الإنسان، فأرشده الله به إلى الاستدلال والاقتران والتفكر، فيعلم المخلوق أن له خالقًا رازِقًا موجِدًا واحدًا صمدًا. وبعد فإن معرفة الله هي البِذرة، ومعرفة العبادة هي الوسيلة، ومعرفة الآخرة هي الغاية المُنتهى. فالأول يهتدي به العقل، ولا يُجاوزه في ذلك. ثم الله يُرسل الرسلَ مبشّرين ومنذرين، وينير على يدهم بشريعته العبادة والطريق والتي هي الوسيلة، ويخبرهم بالغاية المرجوة، وهي نيل رضوان الله ودخول الجنة، فسبحان الله الخالق الرازق المقدّر المُعطي لكل شيء حقّه، والهادي إلى سواءِ السبيل.

خُلق الإنسانُ ضعيفًا، ظلومًا جهولًا، فاللبيب منّا من عرِف قدره، واستبان مكانه، وحدود علمِه، والمُستكبر الذي اعتدى  بضعفه واستكبر وأبى، وشابَه بذلك عدوّ الله إبليس لعنهُ الله، فهو أول من احتجّ بعقله على حكمة الله، فقال {أنا خيرٌ منه خلقتني من نار وخلقته من طين}، وظنّ بقياسه المعتل الفاسد وتكبر وتجاوز، وما يزال المتكبرين يستعلون بعقولهم القاصرة على أحكام الله وتدبيره، وقضائه العادل في خلقه حتى يحقّ القول {قال فالحقُّ والحقَّ أقول لأملأن جهنّم منك ومن تبعك منهم أجمعين} ص. 

فافهم يا عبد الله، أنك لن تجاوز بعقلك حدود الخَلقِ، فهذا العقل وُجد لمعرفة ما ينفع العبدَ في دينه ودنياه من شأنه كلّه، ولا يُسأل عن شأن الله، {لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون} الأنبياء. فهذا من تمام قدرته وعلوّه على خلقِه، فلا يُسأل فيما يأمر ويحكم ويشرع، والعبد المخلوق يُسأل عن طاعته لأمر الله، والعمل بأحكامه، واتباع شريعته، وله في ذلك إدراكُ تمام العبوديّة والخضوع لله، والاهتداء إلى طريقه في اتباع شريعته المُرسلة إلى رسُله مبلغينَ ومُنذرين. فيُدرِك خلقَه فيما خُلق، وعملَه فيما يُصرف، ومآله فيما يُساق. 

فاللهم أرنا الحقَّ حقًا وارزقنا اتبعاه، وأرنا الباطق باطلًا وارزقنا اجتنابه، وبالله التوفيق.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق